كنت خلال إجازة عيد الفطر المبارك في زيارة لأحد الزملاء والذي كان يعيش في منطقة ريفية تبعد عن العاصمة الرياض ما يزيد على 350 كلم، وأثناء تواجدي هناك اضطررت إلى مراجعة المركز الصحي الموجود في تلك المنطقة بصحبة زميلي، وقد لفت انتباهي وجود سيارتين متوقفتين عند باب المركز تقودهما امرأتان، وقد ترجل من إحدى السيارتين رجل كبير في السن تبدو عليه آثار الكبر والمرض، أما السيارة الأخرى فنزلت منه المرأة التي كانت تقودها وبصحبتها طفلين وقد وتوجه الجميع إلى قسم الطوارئ. كل ذلك جرى بصورة طبيعية دون أن يشد انتباه الحاضرين من أبناء المنطقة وكأنهم قد ألفوا هذا المنظر. وعندما خرجت أنا وزميلي من المركز تحدثت معه في مسألة قيادة المرأتين للسيارة وكأنه أصبح أمرًا طبيعيًا بالنسبة للمنطقة وأهلها. فأجاب زميلي أن الحاجة قد اضطرت تلك العوائل إلى أن تقود المرأة فيها السيارة، فأزواجهن وإخوانهن وأبناؤهن ارتبطوا بوظائف وأعمال خارج المنطقة، فمنهم من العسكري الذي أخذ مكانه في الحد الجنوبي للدفاع عن الوطن مع جنودنا البواسل، والآخر اضطرته ظروف التعليم العالي إلى أن يلتحق بالجامعات في المدن الكبرى. وثالث يعمل في منطقة أخرى بعيدة عن هذه المنطقة. وذكر أن قيادة المرأة للسيارة أصبح أمرًا ملحًا بالنسبة للعوائل الموجودة في المنطقة، وقد خفَّف الكثير من المعاناة عن أهلها في حال عدم وجود من يقوم بشأن تلك العوائل من الرجال.
لقد أوردت هذه الحادثة ونحن نعيش أصداء الأمر السامي الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز باعتماد تطبيق أحكام نظام المرور ولائحته التنفيذية، بما فيها إصدار رخص القيادة، على الذكور والإناث على حد سواء، وتشكيل لجنة على مستوى عالٍ من وزارات ( الداخلية والمالية والعمل والتنمية الاجتماعية) لدراسة الترتيبات اللازمة لإنفاذ ذلك، على أن يتم ذلك وفق الضوابط الشرعية والنظامية المعتمدة.
إن صدور هذا الأمر السامي الكريم ليؤكد بما لا يدع للشك حرص قيادتنا الرشيدة على تلمس احتياجات أبناء هذا الوطن وتوفير سبل النماء والراحة لهم، فقيادة المرأة للسيارة في مجتمعنا أصبح أمرًا ملحًا ولا سيما مع إباحة ذلك وعدم وجود نص شرعي يمنع منه.
إن المصالح التي تمليها خطط التنمية واستراتيجيات المستقبل لتحتم علينا الإسراع في مواكبة التطور الحضاري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يشهده العالم، فالمملكة أصبحت جزءًا مهمًا من هذا العالم المتغير والذي يصعب فيه الانعزال عن الآخرين أو تجاهلهم في ظلّ تنامي الثورة المعرفية والاقتصادية، كلّ هذا يطرح تحديّات مؤرّقة لا أحدَ يستطيع أنْ يكون بمنـــأى عـن أعاصيرها العاتية، ولذلك وجب علينا كشعب أن نتحمّل مسؤولية جسيمة من أجل الالتحاق بمصافّ العالم المتقدّم والتأكيد على إقحام جملة من التغييرات تبدأ بالإنسان أولا من أجل إحداث التنمية والخروج من البيئة المتخلفة. إن رفض التغيير واللحاق بركب الدول المتقدمة هُو نتيجة وجود قوى غير واعية بحساسية المرحلة، لأنها ببساطة ترفض مشروع التغيير وتعمل على إعاقته وتعطيله، وهذا ينافي سنة الحياة لأنّ التغيير يبعث الأمل في النفوس فيجعلها تنتعش و تتحرّك وتنتج وتبدع، ومن ثمّ فالتغيير هو عملية إصلاح و معالجة لمواطن الخلل، كما أنه عملية تجديد تعمل على إتاحة الوسائل الجديدة والأفكار الحديثة محلّ القديمة والبالية وتسعى إلى تقديم بديل تنموي شامل، وهذا يستوجب منا التكيف مع منجزاتنا الحضارية بما لا يتعارض مع قيمنا ومبادئنا الدينية والاجتماعية وموروثاتنا الثقافية التي قد تصطدم أحيانا مع آثارها المترتبة عليها، مع التسليم بضروراتها الحياتية، فلا بد من تطويعها لخدمة أغراضنا وأهدافنا وتسخيرها لتوسيع دائرة انتفاعنا.
أخيرًا وليس آخرًا لا يخفى على كل عاقل الدور الحيوي لقيادة المرأة للسيارة في حمايتها من ضعاف النفوس، ومساعدتها في قضاء احتياجاتها العملية والعائلية، إضافة لمساعدة الرجال ومشاركتهم في رفع شأن الأسرة السعودية، وتخفيف الأعباء الاقتصادية على محدودي الدخل. حفظ الله بلادنا بلاد الحرمين من كل مكروه وشر، وأدام وحدتها وأمنها واستقرارها.
د. عبد الرحمن بن عبد العزيز المقبل
عميد البحث العلمي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية